الثلاثاء، 3 مارس 2009

أريد رتبة مواطن مع الشرف

منذ طفولتي لم أتقن شيئاً أكثر من الوداع..
فطالما كان الناس في حياتي مجرد مرحلة.. أعيشها.. يتداركها عقلي.. وتبللني عواطفها حتى تشغل كل خلية بي..
ثم تنتهي المرحلة..
ولا يبقَ منها سوى بضعة وجوه تعلق في مهجتي.. وتطالعها ذاكرتي كلما داهمني الحنين على حين غفلة..
ربما كانت القاهرة في السابق هي محطة قدومي وترحالي.. أترك أقاربي فيها.. وادعتهم في أمانة الله، بينما قلبي يثمل حزناً لفراقهم على أمل أن أجدهم كما كانوا عندما أزورهم العام القادم..

ومن بعد وعندما كبرت قليلاً، ودعت عائلتي.. كنت أولى أفراد الأسرة الذي يبتعد.. ويفارق ويواجه الحياة بمفرده.. دون "ماما" تدلله أو "بابا" يحميه من حتى من نفسه..
تغربت في وطن يفترض أنه وطني.. الأردن..
ولا أعلم آنذاك ان كنت عدت اليه ام انني تغربت له.. فلقد كانت
أول مرة أكون فيها بمفردي.. ولأول مرة أشعر بها اني غريبة... كنت في الثامنة عشرة...
ولكنني أتكر كيف أنني بقيت أعاني ثلاثة سنوات.. قبل أن أتأقلم وفارقت السعودية. بلد منشأي بدمع أقرب لكونه دماً ينزفه وجداني..
تركت صديقات فيه حتى اليوم حفروا بداخلي ذكرى لا يمكنها أن تنضب، وان كانت رمال الزمن قد وارتها

ومضت ثلاثة عشر عاماً.. لا أعرف كيف مضوا.. ولكنني كنت قد اعتدت الرحيل..

اعتدت أن لا أدمع عند معانقة قريب أو صديق.. سيغادر
فلقد استقريت أخيراً.. وكنت قد بدأت أعتاد على استخدام هويتي الشخصية، والتعريف بنفسي كمواطن وليس مقيم..
ألفت هذه الصورة إلى درجة.. الشعور الدائم بالفخر.. والاطمئنان..
لن أفارق بعد الآن.. لن أتعامل مع أرضية المطار وكأنها محطة وداع.. بل لترحيب بقادم.. أو توصيل مغادر..
أو منطلق لرحلة قصيرة للعلم أو للسياحة..

ولكن هذا العهد لم يبق طويلاً.. فلقد رحلت
عدت لغربتي.. تلك
تركت أصدقائي وعائلتي مرة أخرى..
اضطرتني الظروف..
أو هكذا على ما يبدو هو قدري.

وعدت أحمل اقامة... وعدت لأفقد الكثير من حقوقي المدنية..
وعدت أحمل هم المصروف... وقانون الادخار الذي تخليت عنه منذ سنوات...

خبئت هويتي ورقمي الوطني، في صندوق الأوراق المهمة.. لكنني على ما يبدو لم أعد استخدمها
فلقد عدت أحمل اقامة..
وأعاني مرارة غربة طفولتي مرة أخرى

وفارقت أعز أصدقائي الذين كونتهم بعناء طيلة سنواتي الثلاثة عشرة..



بالأمس عدت للعبة الفراق مرة أخرى، في هذه المرة جاراتي..
طيلة عشرة شهور مضوا منذ بداية زواجي.. لم أعرف غيرهن..
هن من احتواني..وهون علي مرارة الفراق والغربة الجديدة..
كانوا لي الأسرة التي حرمت منها بعد زواجي..
أصبحت لنا عاداتنا الصباحية..
للصدق، أحببتهم جداً. ومع الألم أحبوني هم أيضا
بالأمس فقط سافرت وتركتهم..
أيضا شاء القدر ذلك..
اضطررت أن اتخلى عن عاداتي التي اكتسبتها مؤخراً.. وعن وجوه لا تغادر مآقي..

وعن أن أشرب قهوة الصباح وحيدة..
رغم الفترة القصيرة نسبيا التي جمعتني بهم.. ولكن اليوم فقط أشعر بألم مختلف لم يبارحني من قبل..
فبرغم تلك الفراقات الموجععة الكثيرة التي انتهكتني طوال ثلاثين عاماً.. وعام.. وأنا أقاسي قدوم هذا ثم رحيله..
وسفر ذاك ومغادرته.
ولكنني اليوم بالفعل مفجوعة..
ليس فيهم.. ولكن في نفسي!
لقد عرفت للتو أن لا قيمة للحياة.. فهي كثيرة التقلب..
والوجوه ما أن نحفظها ونعتادها حتى تتغير..
حتى عاداتنا وطباعنا ما أن تتشكل.. حتى تنزع جلدها..
وتتخذ قالباً جديداً..

قالت لي صديقتي ذات يوم.. يبدو أن هذا قدرنا.. أن نكون فلسطينيون.. يشردنا الزمن كل برهة قليلاً..


لكنني بالأمس عرفت.. أننا ذوي الجذو ر الفلسطينية لسنا وحدنا من تغرب.. من يقاسي
فهنا العديد من الجنسيات..
التي تغادر وترحل وتجيء رغم أن لهم أوطانا حرة
فكلنا مغتربون.. وما أن تدخل متاهة الغربة حتى تفهم.. أن عليك أن تترك مشاعرك في الثلاجة..
وأن عليك أن لا تدمع..
لكن
إلى متى
لقد مللت..
أريد منزلاً لا أفارقه.. أريد أناساً أضمن أن لا أبكيهم من بعد..رغم أنهم أحياء
أريد حياة لا تكون في مهب الريح..
يغيرها الزمان كل برهة..

أو قلباً من حديد لا يتأثر.. ولا يحزن ولا يأسف.. ولا تهزه المسافات..
بصراحة أكثر أريد أن أستخدم هويتي من جديد.. وأعود لرتبة مواطن مع الشرف
يكفي غربة

فلا شيء في هذه الحياة يستحق أن تجلدنا دموعنا لأجله آلاف المرات
ونشعر بغصة الموت ملايينها

ليست هناك تعليقات: